٢٦ يوليو ٢٠٠٦

لابد أن يكون هو

عندما قفزت إلى ذهني فكرة إنشاء هذه المدونة… فكرت فى العديد من الشخصيات التى صادفتها فى حياتى…
واحترت بشدة فى ترتيب الكتابة عن هذه الشخصيات التى أسعدنى وجودها فى حياتى
إلا هو
فهو – بلا تفكير –أول من يجب أن أكتب عنه
وإن كنت متأكدا أننى لن أوفيه جزءا ضئيلا من حقه…
فعلا وحقا وصدقا
فكيف يوفى الفرع جزءا مما عليه تجاه الأصل؟
وكيف يوفى الصغير – مهما كبر – جزءا مما عليه تجاه الكبير الشامخ؟
كيف يوفى الابن جزءا ضئيلا لأبيه؟

نعم
إنه هو
أبى الحبيب
مثلى الأعلى
سندى الذى أتكئ عليه
من رعانى وأختى بكل ما يملك
من علمنا حب الجمال
من كان ومازال حريصا على أن يعطينا كل وقته

ذلك الأب المدهش
متعدد الاهتمامات
قارئ ممتاز – فى شتى المجالات
مصور محترف
رسام مبدع
صديق صدوق لأصدقائه
ملاذهم الأمين
كاتم أسرارهم
حلال مشاكلهم
صاحب المبادئ التى لا تتجزـ

كان مدرسا ناجحا جدا للغة الإنجليزية
ولكنه كان يرفض رفضا لا رجعة فيه أن يقوم بإعطاء دروس خصوصية
لشعوره أن بها شبهة استغلال
كان يشرح لكل من نعرفه، ومن لا نعرفه حتى
كان يتأخر بالمدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسى لشرح ما يصعب على تلاميذه وبخاصة رقيقى الحال.

كبرت على وجود زوار شباب فى منزلنا
إنهم طلبته
يأتون لزيارته امتنانا وحبا واعترافا بفضله

لا أزال أذكر تلك الكلمات الجميلة
التى يقولها لى أحد معارفه
حين نلتقى صدفة فى معرض أو مناسبة
يظل يعدد مناقبه ومواقفه
وأنا أشعر بالفخر أنه والدى
بل أشعر بالفخر الشديد أننى ابنه

كان – ولا زال - متحمسا جدا لفكرة التدريس
كان يرى فيها رسالة وليست مجرد مهنة
أتذكره الآن حينما كان يقول لى أنه لا شيء يساوى نعمة أن ترى لمعة عين من تدرس لهم ساعة أن يجعلك الله سببا فى فك طلاسم جزء لم يستطيعوا فهمه...
ظللت أظن تلك مبالغة إلى أن أصبحت معيدا أقوم بالتدريس وألمس وأحس كل ما كان يحكيه لى...

أدين له بالفضل فى كل شيء
ليس فقط لأنه سر وجودى – شأن كل الآباء مع أبنائهم
بل لأنه مثلى الأعلى فى كل شيء
علمنى كل الأشياء
علمنى القراءة
علمنى معنى وجود هوايات واهتمامات فى حياتى

كنت لم أبلغ بعد السادسة من عمرى
حينما سافر فى منحة دراسية لإنجلترا
لم يكن هناك بريد إلكترونى ساعتها
كان يرسل لنا رسالة كل أسبوعين من هناك
ظرف منتفخ بما فيه من أوراق
ولكن ماذا فيه؟
خطاب؟
نعم
ولكن هذا ليس كل شيء
كان يرسل لنا – أختى وأنا – مجموعة من الأوراق التى رسمها وكتبها بيديه كى نقصها ونلصقها ونعمل منها شيئا ما...
كان – ومازال – يهوى الأعمال اليدوية وخاصة أعمال الورق paper crafts
كنا نتلهف حين عودة أمى من عملها وفى يدها المظروف المنتفخ

منذ كان عمرى أربعة سنوات كان يشجعنى على القراءة
حتى أنه أبدع ما أسماه (مكتبة عمرو)
وهى سلسلة من الكتب التى كان يكتبها ويرسمها بيديه
تتنوع بين قصص
وأنشطة
ومذكرات
منذ أسابيع أعدت قراءة رائعته (بابا العزيز فى بلاد الإنجليز)
وهو الكتاب الذى كتبه لى فى سلسلة (مكتبة عمرو) بعد عودته من إنجلترا،وكان عمرى وقتها قد تجاوز الستة سنوات بقليل
يحكى لى عما رآه هناك
عن الصدمة الحضارية
عن اختلاف العادات
كل ذلك لطفل فى السادسة

كان كل همه يناء عقولنا – أختى وأنا
لم تكن المادة أبدا هى طموحه
وأعتقد أنه كان مثلى الأعلى فى ذلك أيضا
يحب أن يعيش سعيدا، ويرى سعادته في سعادة من يحبهم

علمنى – دون أن أدرى – حب الجمال
كان أول من أخذنى لحفلات نصير شمة
كان أول من أسمعنى شرائط عمر خيرت
أهدانى كاميرا تصوير حقيقية صغيرة فى عيد ميلادى السابع!
(كما أهدى ابنتى كاميرا ديجيتال فى عيد ميلادها الثامن)

عن موهبته فى التصوير فحدث ولا حرج
مبدع
فنان
يختار زوايا ولقطات لا يراها غيره

مع الوقت... أصبح مقدسا فى العائلة و دائرة معارفنا أن يقوم بتصوير مناسباتهم الأستاذ محمد
حتى أن أقرب أصدقائه إلى قلبه – والذى تعلم منه حب التصوير – لم يجد أجمل ما يجامله به يوم عقد قرانى وزفافى سوى أن يقوم بالتصوير بدلا منه
ولكنه يأبى إلا أن يقوم بما يحب

علمنى – دون أن أدرى أيضا – الشعور بالآخرين
وخاصة المحتاجين
كثيرا ما كان يحسن على الفقراء أمامى وأنا صغير
بل كان يعطينى المال كى أعطيه للمحتاجين بيدى
أتذكر موقفا آخر
كنت تقريبا فى السادسة والعشرين من عمرى
وكان مسافرا للخارج لمدة أسبوع تقريبا
أوصانى قبل أن يسافر بوصية سرية
أوصانى أن أذهب لصلاة الجمعة القادمة – النى لن حضرها هو لسفره – إلى مسجد معين، وأن أنحين لحظة بعد الصلاة ثم أمشى وراء كناس الشارع وأسلم عليه بيدى على أن يكون فيها مبلغ من المال (حدده لى) لأن الرجل ينتظر هذه اللحظة كل أسبوع!!!
كنت أصلى فى هذا المسجد مع أبى ثلاث مرات فى الشهر تقريبا
ولم ألحظه مرة واحدة يعطى هذا الرجل شيئا
رأيت فى والدى تحقيق الحديث الشريف: حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه

ابتسامته الجميلة تذيب الفوارق فى لحظة

لم أره يوما متكبرا ولا متعجرفا
شديد التواضع رغم كبر مقامه

حتى فى نصائحه
لم يكن ديكتاتورا
ينصح ويحلل لك الموقف ثم يتركك تقرر
وكثيرا ما ثبت لى بعد نظره وسداد رأيه

علاقة الأطفال بوالدى علاقة ذات طابع خاص
بالفعل
فهو يمتاز بحنان جارف نحو الأطفال
يجتويهم
يحيهم
كان مشهورا بأن أعتى أطفال العائلة وأكثرهم عنادا يلينون عنده
دائما ما يجد ما يشغلهم ويفرحهم به
حتى من لا نعرفهم
كثيرا ما كان يلتف حوله الأطفال فى أوتوبيسات المصيف ليقوم بعمل ألعاب لهم من الورق

أما عن حياته مع أحفاده
فتلك قصة أخرى
خمسة من الأحفاد
لكل منهم نصيب فى حب (جدو)
ولكل منهم طعم

كثيرا ما يحدثنى عن شعوره عندما يلعب مع أبنائنا نفس اللعب التى كان يلعبها معنا – أختى وأنا
كثيرا ما يدعو الله لى أن أرى أحفادى مثل ما رأى أحفاده

أعلم أننى كتبت كثيرا عنه...
إلا أننى لم أكتب كل ما كنت أريد كتابته
ولم أرتب أفكارى
إلا أننى أردت فقط أن أقول له ولكم أننى أحبه
وأدين له بكل ما تحقق فى حياتى
وبالنصائح الغالية – الصريحة والمستترة
وبالدعم المعنوى والمادى
أرجو أن أكون أبا صالحا مثله
وأرجو أن يجبنى أبنائى مثلما أحبه