٢٢ يناير ٢٠١٠

الدكتور عثمان بدر

الزمان: الأسبوع الأول من العام الدراسي 1992/1993

المكان: مدرج 240 في كلية الهندسة جامعة عين شمس

كنت يومها في الفرقة الثالثة بقسم الكمبيوتر بكلية الهندسة، وكنا – الطلاب – مازلنا نتعرف على دكاترة القسم في أسبوعنا الأول في هذا القسم.

دخل علينا يومها رجل بشوش الوجه، مرح الطباع، يبعث على التفاؤل.

كان يدرس لنا مادة الدوائر المنطقية Logic Circuits، وكان يمتاز بأسلوب سهل وعذب في الشرح، يساعده في ذلك حالة الود التي يشيعها في المحاضرة، ولفتاته المرحة، بالإضافة إلى علمه الغزير.

كان الدكتور عثمان مثالا بديعا لما يجب أن يكون المعلم. لم يكن فقط معلما. بل كان أبا وأخا وصديقا لكافة الزملاء.

ولم تكن تلك وجهة نظر دفعتنا وحدها. بل عرفنا من زملائنا في الدفعات السابقة أن هذا رأي الجميع فيه على مر الوقت.

مرت سنة الفرقة الثالثة بسلام وانتقلت للفرقة الرابعة (البكالوريوس). وفي هذه الفرقة كان لابد من اختيار أحد مشروعات التخرج. وكما توقع الكثيرون، فقد تدافع الزملاء للالتحاق بالمشروع الذي يشرف عليه الدكتور عثمان بدر. وبفضل الله كان من نصيبي أن أكون من المجموعة التي يشرف عليها.

وكانت هذه فرصة جميلة أن أقترب أكثر من هذا الرجل الجميل ذي العلم الغزير والأخلاق الرفيعة والروح العذبة. فعدد أفراد المجموعة في المشروع لا يزيد عن ثمانية، وبالتالي ففرصة اللقاء مع الأستاذ كانت أكبر وأكثر تركيزا. وكما كان الحال في العام السابق، فقد نهلت من علمه الغزير ما استطعت، وتعلمت على يديه ما أستفيد منه حتى الآن (بعد مرور سبعة عشر عاما)

بعد انتهاء العام الدراسي، كنت بفضل الله من أوائل الدفعة وتم تعييني معيدا بالقسم. وكان من حسن حظي أن أقوم بتدريس نفس المادة (الدوائر المنطقية) مع الدكتور عثمان بدر، ولكنني أصبحت معيدا بدلا من كوني طالبا من قبل. وكانت تلك أيضا فرصة لمزيد من الاقتراب والتعلم من أستاذي العزيز. وكثيرا ما كنت أقتبس طرقه في التدريس وتعبيراته في التعليق. بل يمكنني هنا أن أقول إن الدكتور عثمان بدر هو أحد ثلاث رجال اتخذتهم مثلا أعلى في التدريس وأحببت أن أشتغل بهذه المهنة بسببهما (أولهما أبي الحبيب وثالثهما كان معيدا في نفس القسم)

وأثناء عملي معيدا بالقسم، كان علىّ تحضير رسالة الماجيستير. ومرة أخرى يسعدني حظي بأن يكون الدكتور عثمان مشرفا على الرسالة. وكانت تلك أيضا فرصة لمزيد من الاقتراب بيننا. وازددت انا حبا له، وازداد هو قدرا في عقلي وقلبي.

ومرت بنا السنون، إلى أن صحوت ذات يوم على تليفون يخبرني بالخبر الذي لم يكن متوقعا: البقاء لله... توفي الدكتور عثمان بدر والصلاة عليه بعد نصف ساعة في مسجد رابعة العدوية!

ماذا حدث؟ كان الدكتور عثمان في مؤتمر بالغردقة، وكان كعادته دائما مرحا وبشوشا، ثم دخل حجرته لينام. في اليوم التالي انتظروه على الإفطار فلم ينزل. طلبوه في رقم الغرفة فلم يرد. طرقوا الباب فلم يفتح أحد. وأخيرا فتحوا الغرفة ليجدوه ق فارق الحياة.

كان يوما عصيبا بالفعل.

ارتديت ملابسي على عجل وذهبت مسرعا لمسجد رابعة العدوية. كان الوقت وقت صلاة الظهر. مسجد رابعة العدوية مسجد كبير إلى حد ما. وتحوطه حديقة وممرات كبيرة وحله سور ثم رصيف طريق النصر. عادة لا يمتلئ إلا نصف مساحة المسجد الداخلية في صلاة الظهر. لا أستطيع أن أنسى زحام هذا اليوم. رغم أنني ذهبت إلى المسجد بعد عشر دقائق من الأذان، إلا أنني صليت على أسفلت طريق النصر! من شدة الزحام ملأ المصلون المسجد والطرقات والحدائق حوله، ثم صلى الباقون على الرصيف وصلينا نحن على الأسفلت! وكل هؤلاء من محبي هذا الرجل العظيم وتلاميذه وزملائه.

وفي المساء، ذهبت للعزاء في دار المناسبات. وكانت قاعة العزاء كبيرة أيضا. إلا أن عدد المعزين كان كبيرا جدا. وكان عدد الواقفين أكبر من عد الجالسين. حتى إن المقرئ كان يقرأ آية واحد فقط ثم يختم أملا في أن يغادر الناس ويتركوا مكانا لمن يريد تقديم العزاء. إلا أم أحدا لم يغادر. وهنا أخذ أحد المعزين المايكروفون وقال: يا ليت الدكتور عثمان كان بيننا الآن ليعرف مقدار حبه في قلوبنا جميعا. ليته يرانا جميعا وقد جئنا لنودعه ولا يريد أي منا أن يغادر كما لو كنا نحن من يستأنس به.

ثم تمر السنون وألتحق بعمل جديد في وزارة الاتصالات، وما من مرة تأتي سيرة الدكتور عثمان بدر إلا ويقول الحاضرون شعرا فيه! فالإنسان سيرة كما يقولون، وسيرته ولله الحمد جميلة.

ما إن يذكر اسمه إلا ويقول الحاضرون عبارات مثل: "كان شخصا مختلفا"، "كان عاما متواضعا"، "لم يعوض أحد مكانته"، وغير ذلك من عبارات الاستحسان والتذكر بكل خير.

رحمك الله يا أستاذي الحبيب، وجعل مثواك الجنة، وجعل ما تركته في نفوس محبيك وطلابك في ميزان حسناتك وفي خانة العلم الذي ينتفع به.

هناك ٦ تعليقات:

  1. رحمك الله الدكتور/عثمان بدر
    واغمدك الله برحمتك وغفر الله لك

    ردحذف
  2. رحمة الله عليه
    اللهم اغفر له وارحمه يا رب
    واجعل سيرتة طيبة دائما

    ردحذف
  3. كلما كان المرء ينبوعا رقراقا في حياته
    كلما تمسكت ذكراه بالحياة
    شكرا يا عمرو على البلوج الرقيق ده

    ردحذف
  4. I can't forget this respectful man... I was in the project of his when he died. Really I was very sad not about the project but about him because he was the most honorable man I have ever seen

    ردحذف
  5. حقا فالانسان سيرة
    رحمه الله علية وعلى أموات المسلمين ..
    .احمد فؤاد

    ردحذف